قَدِمَ على امْرِئِ القَيْسِ بنِ حُجْرٍ الكِنْدِيِّ بعدَ مَقْتَلِ أبيهِ رِجالٌ مِن قبائلِ بني أَسَدٍ وفيهم قَبَيْصَةُ بنُ نُعَيْمٍ يَسْأَلُونَهُ العَفْوَ عن دَمِ أبيهِ، فَخَرَجَ عليهم في قِبَاءٍ وَخُفٍّ وَعِمَامَةٍ سَوْدَاءَ وكانت العَرَبُ لا تَعْتَمُّ إِلا في التِّرَاتِ، فلمَّا نَظَرُوا إليه قامُوا لَهُ، وبَدَرَ إليه قَبِيْصَةُ، فقال :
إِنَّكَ في المَحَلِّ والقَدْرِ والمَعْرِفَةِ بِتَصَرُّفِ الدَّهْرِ وما تُحْدِثُهُ أَيَّامُهُ، وَتَتَنَقَّلُ بِهِ أَحْوَالُهُ بِحيثُ لا تحتاجُ إلى تَذْكيرٍ مِن واعِظٍ، ولا تَبْصيرٍ مِن مُجَرِّبٍ، وَلَكَ مِن سُؤْدَدِ مَنْصِبِكَ وَشَرَفِ أعراقِكَ وكَرَمِ أَصْلِك فى العربِ مَحْتِدٌ يَحْتَمِلَ ما حُمِّلَ عليه مِن إِقَالَةِ العَثْرَةِ، وَرُجُوعِ عن الهَفْوَةِ، ولا تَتَجَاوَزُ الهِمَمُ إلى غَايَةٍ إِلاَّ رَجَعَتْ إليك فَوَجَدَتْ عندَك مِن فَضِيلةِ الرَّأي وَبَصِيرةِ الفَهْمِ وكَرَمِ الصَّفْحِ ما يَطُولُ رَغَبَاتِهَا ويَسْتَغْرِقُ طَلَبَاتِهَا، وقد كان الذي كانَ مِن الخَطْبِ الجَليلِ الذي عَمَّتْ رَزِيَّتُهُ نِزَارًا واليَمَنَ، ولم تَخْصُصْ بذلك كِنْدَةُ دونَنَا للشَّرَفَ البارِعِ.
كان لِحُجْرٍ التَّاجُ والعِمَّةُ فوقَ الجبينِ الكريمِ، وإِخاءُ الحمدِ وطيبُ الشِّيمِ، ولو كان يُفْدَى هَالِكٌ بالأَنْفُسِ البَاقِيةِ بعدَه لَمَا بَخِلَتْ كَرَائِمُنا بِهَا على مِثْلِهِ؛ ولكِنَّهُ مَضَى به سبيلٌ لا يَرْجِعُ أُخْرَاهُ على أُوْلاهُ، ولا يَلْحَقُ أَقْصَاهُ أَدْنَاهُ، فَأَحْمَدُ الحَالاتِ في ذلك أَنْ تَعْرِفَ الواجِبَ عليك في إحدى خِلالٍ ثلاٍثٍ:
إِمَّا إِن اخْتَرْتَ مِن بني أَسَدٍ أَشْرَفَهَا بَيْتًا، وأعلاها في بِنَاءِ المَكْرُمَاتِ صَوْتًا، فَقُدْنَاهُ إليك بِنِسْعَةٍ تَذْهَبُ مَعَ شَفَرَاتِ حُسَامِك بِبَاقِي قِصْرَتِهِ، فنقولُ : رجلُ امْتُحِنَ بِهَالِكٍ عَزِيزٍ فلمْ يَسْتَلَّ سَخِيْمَتَهُ إِلاَّ تَمْكِيْنُهُ مِن الانتقامِ.
أو فِدَاءٌ بِمَا يروحُ على بني أَسَدٍ مِن نَعَمِها فهي أُلُوفٌ تَجَاوَزُ الحِسْبَةَ فكان ذلك فداءً رَجَعَتْ به القُضُبُ إلى أَجْفَانِهَا لم يَرْدُدْها تَسْلِيْطُ الإِحَنِ على البُرَآءِ.
وَإِمَّا إِنْ وَادَعْتَنَا إلى أَنْ تَضَعَ الحَوَامِلُ، فَتُسْدَلَ الأُزُرُ، وتُعْقَدُ الخُمُرُ فوقِ الراياتِ.
فبكى امرؤُ القيسِ ساعةً، ثم رفعَ رأسَه فقال :
لقد عَلِمَت العربُ أنَّه لا كُفْءَ لِحُجْرٍ في دَمٍ، وإِنَّي لن أعتاضَ به جَملاً ولا ناقةً فأكتسبَ به سُبَّةَ الأَبَدِ وَفَتَّ العَضُدِ.
وأمَّا النَّظْرَةُ فقد أَوْجَبَتْها الأَجِنَّةُ في بطونِ أُمَّهَاتِها، ولن أكونَ لَعَطَبِهَا سَبَبًا، وستعرفون طلائِعَ كِنْدَةَ مِن بعدِ ذلكَ تَحْمِلُ في القلوبِ حَنَقًا، وفوقَ الأَسِنَّةِ عَلَقَا،
إذا جالتِ الحَرْبُ في مَأْزِقٍ *** تُصَافِحُ فيه المنايا النفوسا
أَتُقِيمون أم تنصرفون؟
قالوا :
بل نَنْصَرِفُ بأسوإِ الاختيارِ، وأَبْلَى الاجْتِرَارِ، بِمَكْرُوهٍ وَأَذِيَّةٍ، وحَرْبٍ وَبَلِيَّةٍ.
ثَمَّ نَهَضُوا عنه وقَبِيْصَةُ يَتَمَثَّلُ:
لَعَلَّكَ أَنْ تَسْتَوْخِمَ الوَرْدَ إِنْ غَدَتْ *** كَتَائِبُنا في مَأْزِقِ الحَرْبِ تُمْطِرُ
فقال امرؤُ القيسِ :
لا واللهِ؛ ولكنْ أَسْتَعْذِبِهُ! فَرُويدًا يَنْفَرِجُ لك دُجَاهَا عن فُرْسَانِ كِنْدَةَ وكتائِبِ حِمْيَرَ. ولقد كان ذِكْرُ غيرِ هذا بي أولى إذ كنتُ نازلاً بِرَبْعِي؛ ولكنَّك قُلْتَ فَأَوْجَبْتَ.
فقال قبيصةُ :
ما يُتَوَقَّعُ فوقَ قَدْرِ المُعَاتَبَةِ والإعتابِ.
فقال امرؤ القيس هو ذاك.
إِنَّكَ في المَحَلِّ والقَدْرِ والمَعْرِفَةِ بِتَصَرُّفِ الدَّهْرِ وما تُحْدِثُهُ أَيَّامُهُ، وَتَتَنَقَّلُ بِهِ أَحْوَالُهُ بِحيثُ لا تحتاجُ إلى تَذْكيرٍ مِن واعِظٍ، ولا تَبْصيرٍ مِن مُجَرِّبٍ، وَلَكَ مِن سُؤْدَدِ مَنْصِبِكَ وَشَرَفِ أعراقِكَ وكَرَمِ أَصْلِك فى العربِ مَحْتِدٌ يَحْتَمِلَ ما حُمِّلَ عليه مِن إِقَالَةِ العَثْرَةِ، وَرُجُوعِ عن الهَفْوَةِ، ولا تَتَجَاوَزُ الهِمَمُ إلى غَايَةٍ إِلاَّ رَجَعَتْ إليك فَوَجَدَتْ عندَك مِن فَضِيلةِ الرَّأي وَبَصِيرةِ الفَهْمِ وكَرَمِ الصَّفْحِ ما يَطُولُ رَغَبَاتِهَا ويَسْتَغْرِقُ طَلَبَاتِهَا، وقد كان الذي كانَ مِن الخَطْبِ الجَليلِ الذي عَمَّتْ رَزِيَّتُهُ نِزَارًا واليَمَنَ، ولم تَخْصُصْ بذلك كِنْدَةُ دونَنَا للشَّرَفَ البارِعِ.
كان لِحُجْرٍ التَّاجُ والعِمَّةُ فوقَ الجبينِ الكريمِ، وإِخاءُ الحمدِ وطيبُ الشِّيمِ، ولو كان يُفْدَى هَالِكٌ بالأَنْفُسِ البَاقِيةِ بعدَه لَمَا بَخِلَتْ كَرَائِمُنا بِهَا على مِثْلِهِ؛ ولكِنَّهُ مَضَى به سبيلٌ لا يَرْجِعُ أُخْرَاهُ على أُوْلاهُ، ولا يَلْحَقُ أَقْصَاهُ أَدْنَاهُ، فَأَحْمَدُ الحَالاتِ في ذلك أَنْ تَعْرِفَ الواجِبَ عليك في إحدى خِلالٍ ثلاٍثٍ:
إِمَّا إِن اخْتَرْتَ مِن بني أَسَدٍ أَشْرَفَهَا بَيْتًا، وأعلاها في بِنَاءِ المَكْرُمَاتِ صَوْتًا، فَقُدْنَاهُ إليك بِنِسْعَةٍ تَذْهَبُ مَعَ شَفَرَاتِ حُسَامِك بِبَاقِي قِصْرَتِهِ، فنقولُ : رجلُ امْتُحِنَ بِهَالِكٍ عَزِيزٍ فلمْ يَسْتَلَّ سَخِيْمَتَهُ إِلاَّ تَمْكِيْنُهُ مِن الانتقامِ.
أو فِدَاءٌ بِمَا يروحُ على بني أَسَدٍ مِن نَعَمِها فهي أُلُوفٌ تَجَاوَزُ الحِسْبَةَ فكان ذلك فداءً رَجَعَتْ به القُضُبُ إلى أَجْفَانِهَا لم يَرْدُدْها تَسْلِيْطُ الإِحَنِ على البُرَآءِ.
وَإِمَّا إِنْ وَادَعْتَنَا إلى أَنْ تَضَعَ الحَوَامِلُ، فَتُسْدَلَ الأُزُرُ، وتُعْقَدُ الخُمُرُ فوقِ الراياتِ.
فبكى امرؤُ القيسِ ساعةً، ثم رفعَ رأسَه فقال :
لقد عَلِمَت العربُ أنَّه لا كُفْءَ لِحُجْرٍ في دَمٍ، وإِنَّي لن أعتاضَ به جَملاً ولا ناقةً فأكتسبَ به سُبَّةَ الأَبَدِ وَفَتَّ العَضُدِ.
وأمَّا النَّظْرَةُ فقد أَوْجَبَتْها الأَجِنَّةُ في بطونِ أُمَّهَاتِها، ولن أكونَ لَعَطَبِهَا سَبَبًا، وستعرفون طلائِعَ كِنْدَةَ مِن بعدِ ذلكَ تَحْمِلُ في القلوبِ حَنَقًا، وفوقَ الأَسِنَّةِ عَلَقَا،
إذا جالتِ الحَرْبُ في مَأْزِقٍ *** تُصَافِحُ فيه المنايا النفوسا
أَتُقِيمون أم تنصرفون؟
قالوا :
بل نَنْصَرِفُ بأسوإِ الاختيارِ، وأَبْلَى الاجْتِرَارِ، بِمَكْرُوهٍ وَأَذِيَّةٍ، وحَرْبٍ وَبَلِيَّةٍ.
ثَمَّ نَهَضُوا عنه وقَبِيْصَةُ يَتَمَثَّلُ:
لَعَلَّكَ أَنْ تَسْتَوْخِمَ الوَرْدَ إِنْ غَدَتْ *** كَتَائِبُنا في مَأْزِقِ الحَرْبِ تُمْطِرُ
فقال امرؤُ القيسِ :
لا واللهِ؛ ولكنْ أَسْتَعْذِبِهُ! فَرُويدًا يَنْفَرِجُ لك دُجَاهَا عن فُرْسَانِ كِنْدَةَ وكتائِبِ حِمْيَرَ. ولقد كان ذِكْرُ غيرِ هذا بي أولى إذ كنتُ نازلاً بِرَبْعِي؛ ولكنَّك قُلْتَ فَأَوْجَبْتَ.
فقال قبيصةُ :
ما يُتَوَقَّعُ فوقَ قَدْرِ المُعَاتَبَةِ والإعتابِ.
فقال امرؤ القيس هو ذاك.