موقع يعنى باللغة العربية وآدابها

الرئيسة >> التصنيفات >> المقامات >> مقامات بديع الزمان الهمذاني >> المَقَامَةُ البُخَارِيَّةُ
حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ هِشَامٍ قَالَ:
أَحَلَّنِي جَامِعَ بُخَارى يَوْمٌ وَقَدِ انْتَظَمْتُ مَعَ رِفْقَةٍ في سِمْطِ الثُّرَيَّا، َوِحينَ احْتَفَلَ الجَامِعُ بِأَهْلِهِ
طَلَعَ إِلَيْنَا ذُوْ طِمْرِينِ قَدْ أَرْسَلَ صِوانًا، وَاسْتَتْلى طِْفلًا عُرْيَانًَا، يَضِيقُ بِالضُّرِّ وُسْعُهُ، وَيأْخُذُهُ القُرُّ ويَدَعُهُ، لاَ يَمْلِكُ غَيْرَ القِشْرَةِ بُرْدَةٍ، وَلاَ يَكْتَفِي لِحِمَايَةِ رِعْدَةٍ، فَوَقَفَ الرَّجُلُ وَقَالَ: لاَ يَنْظُرُ لِهَذا الطِّفْلِ إِلاَّ مَنِ اللهُ طَفَّلَهُ، وَلاَ يَرِقُّ لِهذا الضُّرِّ إِلاَّ مَنْ لا يأْمَنُ مِثْلَهُ، يا أَصْحَابَ الجُدودِ المَفْروزَةِ، وَالأَرْدِيةِ المْطُروزَةِ، وَالدُّورِ المُنَّجَدَةِ، والقُصُورِ المَشَّيدَةِ، إِنَّكُمْ لَنْ تَأَمَنُوا حَادِثًا، وَلَنْ تَعْدَمُوا وارِثًا، فَبادِرُوا الخْيرَ ما أَمْكَنَ، وأَحْسِنُوا مَعَ الدَّهْرِ ما أَحْسَنَ، فَقَدْ واللهِ طَعِمْنَا السِّكْبَاجَ، وَرَكِبْنَا الهِمْلاجَ، وَلَبِسْنَا الدِّيبَاجَ، وَافْتَرَشْنَا الحَشَايَا، بِالعَشَايَا، فَمَا رَاعَنَا إِلاَّ هُبوبُ الدَّهْرِ بِغَدْرِهِ، وانْقِلابُ المِجَنِّ لظَهْرِهِ، فَعَادَ الهِمْلاَجُ قَطُوفًا، وانْقَلَبَ الدِّيَباجُ صُوفًا، وَهَلُمَّ جَرًّا إِلى ما تُشَاهِدونَ مِنْ حالي وَزِيِّي، فَهَا نَحْنُ نَرْنَضِعُ مِنَ الدَّهْرِ ثَدْي عَقيمٍ، وَنَرْكَبُ مِنَ الفَقْرِ ظَهْرَ بَهِيمٍ، فَلا نَرْنُو إِلاّ بِعَيْنِ الْيَتيمِ، وَلاَ نَمُدُّ إِلاَّ يَدَ العَدِيمِ، فَهَلْ مِنْ كَرِيمٍ يَجْلو غَياهِبَ هذِهِ البُؤُوسِ، وَيَفُلُّ شَبَا هذِهِ النُّحوسِ؟
ثُمَّ قَعَدَ مُرْتَفِقًا وَقالَ للْطِّفْلِ: أَنْتَ وَشَاْنُكَ، فقالَ: ما عَسى أَنْ أَقُولَ وَهذا الكلامُ لَوْ لَقِيَ الشَّعْرَ لَحَلَقَهُ، أَوْ الصَّخْرَ لَفَلَقهُ، وإِنَّ قَلْبًا لَمْ يُنْضِجْهُ ما قُلْتَ لنِيءٌ، وَقَدْ سَمِعْتُمْ يَا قَوْمُ، مَا لَمْ تَسْمَعُوا قَبْلَ اليَوْمِ، فلْيِشْغَلْ كُلُّ مِنْكُمْ بِالجُودِ يَدَهُ، وَلْيَذْكُرْ غَدَهُ، وَاقِيًا بِيَ ولَدَهُ، واذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ، وأَعْطُوني أَشْكُرْكُمْ.
قَالَ عِيسَى بْنُ هشَامٍ: فَمَا آنَسَني فِي وَحْدَتِي إِلاَّ خَاتَمُ خَتَّمْتُ بِهِ خِنْصَرَهُ، فَلَمَّا تَنَاوَلَهُ أنْشَأَ يصِفُ الخَاتَمَ عَلى الإِصْبَعِ، وَجَعَلَ يَقُولُ:
ومُمَنْطَقٍ مِنْ نَفْسِهِ * بِقِلادَةِ الجَوزَاءَ حُسْنَا
كَمُتَيَّمٍ لَقِيَ الْحَبي * بَ فَضَمَّهُ شَغَفًا وحُزْنَا
مُتَأَلّفٍ مِنْ غَيْرِ أَسْ * رَتِهِ عَلى الأَيَّامِ خِدْنَا
عِلْقٌ سَنِيٌّ قَدْرُهُ * لكِنَّ مَنْ أَهْدَاهُ أَسْنى
أَقْسَمْتُ لَوْ كَانَ الوَرى * في المَجْدِ لَفْظًا كُنْتَ مَعْنَى
قالَ عِيسَى بْنُ هِشَامٍ: فَنُلْنَاهُ ما تَاحَ لَنْا منَ الفَوْرِ، فَأَعْرَضَ عَنَّا، حَامِدًا لَنَا، فَتَبِعْتُهُ حَتَّى سَفَرتِ الخَلْوَةُ عَنْ وَجْهِهِ، فَإِذا هُوَ وَاللهِ شَيْخُنَا أَبُو الفَتْحِ الإِسْكَنْدَرِيُّ، وإِذَا الطَّلاَ زُغْلُولُهُ، فَقُلْتُ:
أَبَا الفَتْحِ شِبْتَ، وَشَبَّ الغُلاَمُ * فَأَيْنَ السَّلاَمُ، وَأَيْنَ الكَلاَمُ؟
فَقَالَ:
غَرِيبًا إِذَا جَمَعَتْنَا الطَّرِيقُ * أَليفًا إِذَا نَظَمَتْنَا الخِيَامُ
فَعَلِمْتُ أَنَّهُ يَكْرَهُ مُخَاطَبَتي، فَتَرَكْتُهُ وانْصَرَفْتُ.

Twitter Facebook Whatsapp