موقع يعنى باللغة العربية وآدابها

الرئيسة >> التصنيفات >> المقامات >> مقامات بديع الزمان الهمذاني >> الْمَقَامَةُ الْبَلُخِيَّةُ
حَدَّثَنَا عِيسى بْنُ هِشَامٍ قَالَ: نَهَضَتْ بِي إِلى بَلخَ تِجَارَةُ الْبَزِّ
فَوَرَدْنُهَا وَأَنَا بِعُذْرَةِ الشَّبَابِ وَبَالِ الفَرَاغِ وَحِلْيَةِ الثَّرْوَةِ، لا يُهِمُّنِي إِلاَّ مُهْرَةُ فِكْرٍ أَسْتَقِيدُهَا، أَوْ شَروُدٌ مِنَ الْكَلِمِ أَصِيدُهَا، فَمَا اسْتَأْذَنَ عَلَى سَمْعِي مَسَافَةً مُقَاِمي؟؟، أَفْصَحُ مِنْ كَلاِمي، وَلمَّا حَنَى الْفِراقُ بِنَاقَوْسَهُ أَو كَادَ دَخَلَ عَليَّ شَابٌّ في زَيٍّ مِلءِ العَيْنِ، وَلْحَيةٍ تَشُوكُ الأَخْدَعَيْنِ، وَطَرفٍ قْد شَرِبَ مَاءَ الرَّافِدَيْنِ، وَلَقِيَنِي مِنَ الْبرِّ فِي السَّناءِ، بِمَا زِدْتُهُ فِي الثَّناءِ، ثُمَّ قَالَ: أَظَعْنًا تُرِيدُ؟ فَقُلْتُ: إِيْ وَاللهِ، فَقَالَ: أَخْصَبَ رَائِدُكَ، وَلاَ ضَلَّ قَائِدُكَ، فَمَتَى عَزَمْتَ؟ فَقُلْتُ: غَدَاةَ غَدٍ، فَقَالَ:
صَبَاحُ اللهِ لا صُبْحُ انطِلاقٍ * وَطَيرُ الوَصْلِ لا طَيْرُ الفِراقِ
فأَيْنَ تُريدُ؟ قُلْتُ: الوَطَنَ، فَقَالَ: بُلِّغْت الوَطَنَ، وَقَضَيْتَ الوَطَرَ، فَمَتَى العَوْدُ؟ قُلْتُ: القَابِلَ، فَقَالَ: طَوَيْتُ الرَّيْطَ، وَثَنَيْتَ الْخيْطَ، فَأَيْنَ أَنْتَ مِنَ الكَرَمِ؟ فَقُلْتُ: بِحَيْثُ أَرَدْتَ، فَقَالَ: إِذَا أَرْجَعَكَ اللهُ سَالِمًا مِنْ هَذَا الطَّريقِ، فَاسْتَصْحِبْ لي عَدُوًّا في بُرْدَةِ صَديقٍ، مِنْ نِجار الصُّفْرِ، يَدْعُو إِلى الكُفْرِ، وَيَرْقُصُ عَلَى الظُّفرِ، كَدَارَةِ العَيْنِ، يَحُطُّ ثِقَلَ الدَّيْنِ، وَيُنافِقُ بِوَجْهَيْنِ.
قَالَ عِيسى بْنُ هِشَامٍ: فَعَلِمْتُ أَنَّهُ يَلْتَمِسُ دِينارًا، فَقُلْتُ: لَكَ ذلِك نَقْدًا، وَمِثْلُهُ وَعْدًا، فَأَنْشأَ يَقُولُ:
رَأيُكَ مِمَّا خَطَبْتُ أَعْلَى * لا زِلْتَ لِلمَكْرُمَاتِ أَهْلا
صَلُبْتَ عُودًا، وَدُمْتَ جُودًا * وَفُقْتَ فَرْعًا، وَطِبْتَ أَصْلا
لا أَسْتَطيعُ العَطَاءَ حَمْلًا * وَلا أُطيقُ السُّؤَالَ ثِقْلا
قَصُرْتُ عَنْ مُنْتَهَاكَ ظَنًّا * وَطُلْتَ عَمَّا ظَنَنْتُ فِعْلا
يا رُجْمَةَ الدَّهْر والمَعَالي * لا لَقِىَ الدَّهْرُ مِنْكَ ثُكْلا
قَالَ عِيسَى بْنُ هِشَام: فَنُلْتُهُ الدِّينَارَ، وَقُلتُ: أَينَ مَنْبِتُ هَذا الفَضْلِ؟ فَقَالَ: نَمَتْنِي قُرَيشٌ وَمُهِّدَ لِيَ الشَّرفُ فِي بَطَائِحِهَا، فَقالَ بَعْضُ مَنْ حَضَرَ: أَلَسْتَ بِأَبِي الْفَتْحِ الإْسْكَنْدَريِ؟ أَلَمْ أَرَكَ بِالْعِراقِ، تَطُوفُ فِي الأَسْواقِ، مُكَدِّيًا بِالأَوْرَاقِ؟ فَأَنْشِأَ يَقُولُ:
إِنَّ للهِ عَبِيدًَا * أَخَذُوا الْعُمْرَ خَلِيطًا
فَهُمُ يُمْسُونَ أَعْرَا * بًا، وَيُضْحُونَ نَبِيطا

Twitter Facebook Whatsapp