موقع يعنى باللغة العربية وآدابها

الرئيسة >> التصنيفات >> المقامات >> مقامات بديع الزمان الهمذاني >> المَقَامَةُ الشِّيرَازِيَّةُ
حَدَّثَنا عِيسى بْنُ هِشامٍ قَالَ: لَمَّا قَفَلْتُ مِنَ اليَمَنِ، وَهَمَمْتُ بِالوَطَنِ، ضَمَّ إِلَيْنا رَفيقٌ رَحْلَهُ، فَتَرَافَقْنَا ثَلاثَةَ أَيَّامٍ، حَتَّى جَذَبَني نَجْدٌ، وَالتَقَمَهُ وَهْدٌ، فَصَعَّدْتُ وَصَوَّبَ، وَشَرَّقْتُ وَغَرَّبَ، وَنَدِمْتُ عَلَى مُفَارَقَتِهِ بَعْدَ أَنْ مَلَكَنِي الجَبَلُ وَحَزْنُهُ، وَأخَذَهُ الغَوْرُ وَبَطْنُهُ فَوَ اللهِ لَقْدَ تَرَكَني فِرَاقُهُ وَأَنا أَشْتَاقُهُ، وَغادَرَنِي بَعْدَهُ أَقَاسِي بُعْدَهُ، وَكُنْتُ فَارَقْتُهُ ذَا شَارَةٍ وَجَمالٍ، وَهَيْئَةٍ وَكَمالٍ، وَضَرَبَ الدَّهْرُ بِنا ضُروبَهُ، وَأَنا أَتَمَثَّلُهُ في كُلِّ وَقْتٍ، وَأَتَذَكَّرُهُ في كُلِّ لَمْحَةٍ، وَلا أَظُنُّ أَنَّ الدَّهْرَ يُسْعِدُني بِهِ وَيُسْعِفُني فيهِ، حَتَّى أَتَيْتُ شِيرَازَ، فَبَيْنا أَنا يَومًا في حُجْرَتِي إِذْ دَخَلَ كَهْلٌ قَدْ غَبَّرَ في وَجْهِهِ الفَقْرُ، وَانْتَزَفَ ماءَهُ الدَّهْرُ، وَأَمالَ قَنَاتَهُ السُّقْمُ، وَقَلَّمَ أَظْفَارَهُ العُدْمُ، بِوَجْهٍ أَكْسَفَ مِنْ بالِهِ، وَزِيٍّ أَوْحَشَ مِنْ حالِهِ، وَلِثَةٍ نَشِفَةٍ، وَشَفَةٍ قَشِفَةِ، وَرِجْلٍ وَحِلَةٍ، وَيَدٍ مَحِلَةٍ، وَأَنْيَابٍ َقد جَرَعهَا الضُّرُّ وَالعَيْشُ المُرُّ، وَسَلَّمَ فَازْدَرَتْهُ عَيْني، لكِنِّي أَجَبْتُهُ، فَقالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنا خَيْرًَا مِمَّا يُظَنُّ بِنا، فَبَسَطْتُ لَهُ أَسِرَّةَ وَجْهِي، وَفَتَقْتُ لَهُ سَمْعِي، وََقُلْتُ لَهُ: إِيهِ، فَقَالَ: قَدْ أَرْضَعْتُكَ ثَدْيَ حُرْمَةٍ، وَشَارَكْتُكَ عِنَانَ
عِصْمَةٍ، وَالمَعْرِفَةُ عِنْدَ الكِرَامِ حُرْمَةٌ، وَالمَوَدَّةُ لُحْمَةٌ، فَقُلْتُ: أَبَلَدِيٌّ أَنْتَ أَمْ عَشِيريٌّ فَقَالَ مَا يَجْمَعُنا إِلاَّ بَلَدُ الغُرْبَةِ وَلا يَنْظِمُنا إِلا رَحِمُ القُرْبَةِ فَقُلْتُ: أَيُّ الطَّريقِ شَدَّنَا في قَرَنٍ؟ قَالَ: طَريقُ اليَمَنِ.
قَالَ عِيسَى بْنُ هِشَامٍ: فَقُلْتُ: أَنْتَ أَبُو الفَتْحِ الإِسْكَنْدَرِيُّ؟ فَقَالَ: أَنا ذَاكَ، فَقُلْتُ: شَدَّ مَا هُزِلْتَ بَعْدِي! وَحُلْتَ عَنْ عَهْدي! فانْفُضْ إِلىَّ جُمْلَةَ حالِكَ، وَسَبَبَ اخْتِلاَلِكَ، فَقالَ: نَكَحْتُ خَضْرَاءَ دِمْنَةٍ، وَشَقِيتُ مِنهَا بِابْنَةٍ، فَأَنَا مِنهَا في مِحْنَةٍ، قَدْ أَكَلَتْ حَرِيبَتي، وَأَرَاقَتْ مَاءَ شَيْبَتي، فَقُلْتُ: هَلاَّ سَرَّحْتَ وَاسْتَرَحْتَ.
ثُمَّ ذَكَر كَلاَمًا يَنْدَى لَهُ وَجْهُ الأَدب فَتعفَّفْنَا عَنْ ذِكْرِهِ وَالخَوْضَ فِيهِ.

Twitter Facebook Whatsapp