حَدَثَّنا عِيسى بْنُ هِشَامٍ قَالَ: قاَلَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ المَعْرُوفُ بِأَبِي العَنْبَسَ الصَّيْمَرِيُّ: إِنَّ مِمَّا نَزَلَ بِي مِنْ إِخْوانِي الَّذِينَ اصْطَفَيْتُهُمْ وَانْتَخَبْتُهُمْ وَادَّخَرْتُهُمْ لِلشَّدَائِدِ مَا فِيهِ عِظَةٌ وَعِبْرَةٌ وَأَدَبٌ لِمَنْ اعْتَبَرَ وَاتَّعَظَ وَتَأَدَبَ.
وَذَلِكَ أَنِّي قَدِمْتُ مِنَ الصَّيْمَرَةِ إِلَى مَدِينَةِ السَّلامِ، وَمَعِي جِرَابُ دَنَانِيرَ وَمِنَ الخُرْثِيِّ وَالآلَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مَا لا أَحْتَاجُ مَعَهُ إِلى أَحَدٍ، فَصَحِبْتُ مِنْ أَهْلِ البُيُوتَاتِ والكُتَّابِ والتُّجَّارِ، وَوُجُوهِ الثَّنَاءِ مِنْ أَهْلِ الثَرْوَةِ وَاليَسَارِ، وَالجِدَةِ والعَقَارِ، جَمَاعَةً اخْتَرْتُهُمْ لِلْصُحْبَةِ، وَادَّخَرْتُهُمْ لِلْنَّكْبَةِ، فَلَمْ نَزَلْ في صَبُوحٍ وَغَبُوقٍ، نَتَغَذَّى بِالجَدَايا الرُّضَعِ وَالطَّبَاهِجَاتِ الفَارِسِيَّةِ، وَالمُدَقَّقَاتِ الإِبْرَاهِيمِيَّةِ، وَالقَلاَيَا المُحْرِقَةِ وَالكَبَابِ الرَّشِيدِي وَالحُملانِ، وَشَرَابُنَا نَبِيذُ العَسَلِ، وَسَمَاعُنَا مِنَ المُحْسِنَاتِ الحُذَّاقِ، المَوْصُوفَاتِ فِي الآفَاقِ، وَنَقْلُنَا اللَّوْزُ المُقَشَّرُ وَالسُّكَّرُ وَالطَّبَرْزَدُ، وَرَيْحَانُنَا الوَرْدُ وَبًخُورُنَا النَّدُّ، وَكُنْتُ عِنْدَهُمْ أَعْقَلَ مِنْ عَبْدِ اللهِ بْن عَبَّاسٍ. وَأَظْرَفَ مِنْ أَبي نُواسٍ، وَأَسْخَى مِنْ حَاتِمٍ، وَأَشْجَعَ مِنْ
عَمْرو، وَأَبْلَغَ مِنْ سَحْبَانِ وَائِلٍ وَأَدْهَى مِنْ قَصِيرٍ، وَأَشْعَرَ مِنْ جَرِيرٍ، وَأَعْذَبَ مِنْ مَاِء الفًرَاتِ، وَأَطْيَبَ مِنَ العَافِيِةِ، لبِذَلْيِ وَمُرُوءَتِي، وَإِتْلافِ ذَخِيرَتِي، فَلَمَّا خَفَّ المَتَاعُ، وَانْحَطَّ الشِّرَاعُ وَفَرَغَ الجِرَابُ، تَبَادَرَ القَوْمُ البَابَ، لَمَّا أَحَسُّوا بِالقِصَّةِ، وَصَارَتْ في قُلُوبِهِم غُصَّةً، وَدَعَوْنِي بَرْصَةً، وَاْنَبَعُثوا لِلْفِرَارِ كَرَمْيَةِ الشَّرَارِ، وأَخَذَتْهُمُ الضُّجْرَةُ، فَانْسَلُّوا قَطْرَةً قَطْرَةً، وَتَفَرَّقُوا يَمْنَةً وَيَسْرَةً، وَبَقِيتُ عَلى الآجُرَّةِ، قَدْ أَوْرَثُونِي الحَسْرَةَ، وَاشْتَمَلَتْ مِنْهُمْ عَلى العَبْرَةُ لا أُسَاوِي بَعْرَةً، وَحِيدًا فَرِيدًا كَالُبومِ، المَوسُومِ بَالشُّومِ، أَقَعُ وَأَقُومُ، كَأَنَّ الَّذِي كُنْتُ فِيهِ لَمْ يَكُنْ، وَنَدِمْتُ حِينَ لَمْ تَنْفَعْنِي النَّدَامَةُ، فَبُدِّلْتُ بِالجَمَالِ وَحْشَةً، وَصَارَتْ بِي طُرْشَةٌ، أَقْبَحُ مِنْ رَهْطَةَ المُنَادِى، كَأَنِّي رَاهِبٌ عِبَادِيٌّ، وَقَدْ ذَهَبَ المَالُ وَبَقِيَ الطَّنْزُ، وَحَصَلَ بِيَدِي ذَنَبُ العَنْزِ، وَحَصَلْتُ في بَيْتِي وَحْدِي مُتَفَتِّتَةً كَبِدِي، لِتَعْسِ جَدِّي، قَدْ قَرَّحَتْ دُمُوعِي خَدِّي، أْعمُرُ مَنْزِلًا دَرَسَتْ طُلُولُهُ، وَعَفَتْ مَعَالِمَهُ سُيُولُهُ، فَأَضْحَى وَأَمْسَى بِرَبْعِهِ الوُحُوش، تَجُولُ وَتَنُوشُ، وَقَدْ ذَهَبَ جَاهِي، وَنَفِدَتْ صِحاحِي، وَقَلَّ مَرَاحِي، وَسَلَحْتُ فِي رَاحِي، وَرَفَضَنِي النُّدَمَاءِ، وَالإِخَوَانُ القُدَمَاءُ، لا يُرْفَعُ لِي رَأْسٌ، وَلا أُعَدُّ مِنَ النَّاسِ، أَوْتَحُ مِنَ بَزِيع الهَرَّاسِ وَرَزِينٍ المَّراسِ، أَتَرَدَّدُ عَلى الشَّطِّ، كَأَنِّي رَاعِي البَطِّ، أَمْشِي وَأَنَا حَافي، وَأَتْبَعُ الفَيَافِي، عَيْنِي سَخِينَةٌ، وَنَفْسِي رَهِينَةٌ، كَأَنِّي مَجْنُونٌ قَدْ أَفْلَتَ مِنْ دَيْرٍ، أَوْ عَيْرٌ يَدٌورٌ فَي الحَيْرِ، أَشَدُّ حُزْنًا مِنَ الخَنْسَاءِ عَلى صَخْرٍ. وَمِنْ هِنْدٍ عَلى عَمْرو وَقَدْ تَاهَ عَقْلِي، وَتَلاَشَتْ صِحَّتِي، وَفَرَغَتْ صُرَّتي، وَفَرَّ غُلامِي، وَكَثُرَتْ أَحْلامِي، وَجِزْتُ في الوَسْوِاسِ المِقْدَارَ، وَصِرْتُ بِمَنْزِلَةِ العُمّارِ، وَشَيْطانِ الدَّارِ، أَظْهَر بِالَّليْلِ وَأَخْفَى بِالنَّهَارِ أَشأَمُ مِنْ حَفَّارٍ وَأَثْقَلُ مِنْ كِراء الدْارِ وَأْرَعَنُ مِنْ طَيْطَىءِ القَصَّارِ وَأَحْمَقُ مِنْ دَاوُدَ العَصَّارِ وَقَدْ حَالَفَتْنِي القِلَّةُ وَشَمَلَتْنِي الذِّلْةُ، وَخَرَجْتُ مِنَ المِلَّةِ، وَأَبْغَضْتُ فِي اللهِ، وَكُنْتُ أَبَا العَنْبَسِ، فَصِرْتُ أَبَا عَمَلَّسِ.
قَدْ ضَلِلْتُ المَحَجَّةَ، وَصَارَتْ عَلَيَّ الحُجَّةُ، لا أَجِدُ لِي نَاصِرًا، وَالإِفْلاسُ عِنْدِي أَرَاهُ حَاضِرًا، فَلَمَّا رَأَيْتُ الأَمْرَ قَدْ صَعُبَ، وَالزَّمَانَ قَدْ كَلِبَ، التَمَسْتُ الدِّرْهَمَ فَإِذَا هُوَ مَعَ النَّسْرَيْنِ، وَعِنْدَ مُنْقَطِعِ البَحْرَيْنِ، وَأَبْعَدَ مِنْ الفَرْقَدَيْنِ.
فَخَرَجْتُ أَسِيحُ كَأَنِّيَ المَسِيحُ، فَجُلْتُ خُرَاسَانَ، وَالخَرابَ مِنْهَا وَالعُمْرَانَ، إِلَى كَرْمَانَ وَسِجِسْتَانَ، وَجيلاَنَ إِلَى طُبْرِسْتَانَ وَإِلَى عُمَانَ إِلَى السِّنْدِ، وَالهِنْدِ، وَالنَّوبَةِ، وَالقُبْطِ، وَاليَمَنِ، وَالحِجَازِ، وَمَكَّةَ، وَالطَّاِئِف، أَجُولُ البَرَارِيَّ وَالْقِفَارِ، وَأَصْطَلِي بِالَّناِر، وَآوِي مَعَ الحِمَارِ، حَتَّى اسْوَدَّتْ وَجْنَتَايَ، وَتَقَلَّصَتْ خُصْيَتَايَ، فَجَمَعْتُ مِنَ النَّوَادِرِ وَالأَخْبَارِ وَالأَسْمَارِ، وَالفَوَائِدِ وَالآثَارِ، وَأَشْعَارِ الْمُتَطَرِّفِينَ، وَسُخْفِ المُلْهِينَ، وَأَسْمَارِ المُتَيَّمِينَ، وَأَحْكَامِ المُتَفَلْسِفِينَ، وَحِيَلِ المُشَعْوِذِينَ، وَنَوَامِيسِ المُتَمَخْرِقِينَ، وَنَوَادِرِ المُنَادِمِينَ، وَرَزْقِ المُنَجِّمِينَ، وَلُطْفِ المُتَطَبِّبِينَ، وَكِيِاَدِ
المُخَنَّثِينَ، وَدَخْمَسَةِ الجَرَابِذَةِ، وَشَيْطَنَةِ الأَبَالِسَةِ، وَمَا قَصَّرَ عَنْهُ فُتْيَا الشَّعْبِيِّ، وَحِفْظُ الضَّبِيِّ. وَعِلْمُ الكَلْبِيِّ. فَاْسَتْرَفْدْتُ وَاجْتَدَيْتُ، وَتَوَسَّلْتُ وَتَكَدَّيْتُ، وَمَدَحْتُ وَهَاجَيْتُ، حَتَّى كَسَبْتُ ثَرْوَةً مِنَ المَالِ، وَاتَّخَذْتُ مِنْ الصَّفَائحِ الهِنْدِيَّةِ، وَالقْضُبِ اليَمَانِيَّةِ، وَالدُّرُوعِ السَّابِرِيَّةِ.
وَالدَّرَقِ التُّبَّتيَّةِ، وَالرِّمَاحِ الخَطِّيَّةِ، وَالحِرَابِ البَرْبَرِيَّةِ، وَالخَيْلِ العِتَاقِ الجُرْدِيَّةِ، وَالبِغَالِ الأَرْمَنِيَّةِ، وَالحُمْرُ المَرِيسِيَّةِ، وَالدَّيَابِيجِ الرُّومِيَّةِ، وَالْخُزُوزِ السُّوسِيَّةِ، وَأَنْواعِ الطُّرَفِ وَالُّلطُفِ، وَالهَدَايَا وَالتُّحَفِ، مَعَ حُسْنِ الحَالِ، وَكَثْرةِ المَالِ، فَلَمَّا قَدِمْتُ بَغْدَادَ وَوَجَدَ القَوْمُ خَبَري، وَمَا رُزقْتُهُ فِي سَفَرِي، سُّرُّوا بِمَقْدَمِي، وَصَارُوا بِأَجْمَعِهِمْ إِلَيَّ، يَشْكُونَ مَا عِنْدَهُمْ مِنَ الوَحْشَةِ لِفَقْدِي، وَمَا نَالَهُمْ لِبُعْدِي، وَشَكَوْا شِدَّةَ الشَّوْقِ، وَرُزْءَ التَّوْقِ وَجَعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَعْتَذِرُ مِمَّا فَعَلَ، وَيُظْهِرُ النَّدَمَ عَلى مَا صَنَعَ، فَأَوْهَمْتُهُمْ أَنِّي قَدْ صَفَحْتُ عَنْهُمْ، وَلَمْ أْظْهِرْ لَهُمْ أَثَرَ المَوْجِدَةِ عَلَيهِمْ بِمَا تَقَدَّمَ، فَطَابَتْ نُفُوسُهُمْ، وَسَكَنَتْ جَوَارحُهُمْ، وَانْصَرَفُوا عَلى ذَلِكَ، وَعَادُوا إِليَّ فِي اليَوْمِ الثَّانِي، فَحَبَسْتُهُمْ عِنْدِي، وَوَجَّهْتُ وَكِيلي إِلَى السُّوقِ فَلَمْ يَدَعْ شَيْئًَا تَقَدَّمْتُ بِشِرَائِهِ إِلاَّ أَتَى بِهِ، وَكَانَتْ لَنَا طَبَّاخَةٌ حَاذِقَةٌ؛ فَاتْخَذْتُ عِشْرِينَ لَوْنًَا مِنْ قَلاَيَا مُحْرِقَاتٍ، وَأَلْوَانًا مِنْ طَبَاهِجَاتٍ، وَنَوادِرَ مُعَدَّاتٍ، وَأَكَلْنَا وَانْتَقَلْنَا إِلَى مَجْلِسِ الشَّرَابِ، فَأُحْضِرَتْ لَهُمْ زَهْرَاءٌ خَنْدَرِيسِيَّةٌ، وَمُغَنِّيَاتٌ حِسَانٌ مُحْسِنَاتٌ، فَأَخَذُوا فِي شَأْنِهِمْ وَشَرِبْنَا، فَمَضَى لَنَا أَحْسَنُ يَوْمٍ يَكُونُ، وَقَدْ كُنْتُ اسْتَعْدَدْتُ لَهُمْ بِعَدَدِهِمْ خَمْسَةَ عَشَرَ صَنًّا مِنْ صِنَانِ البَاذِنْجَانِ، كُلُّ صَنٍّ بِأَرْبَعَةِ آذَانٍ، واسْتَأْجَرَ غُلاَمِي لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَمَّالًا، كلُّ حَمَّالٍ بِدِرْهَمينِ، وَعَرَّفَ الحَمالِينَ مَنَازِلَ القَوْمِ، وَتَقَدَّمَ إِلَيْهِمْ بِالمُوَافَاةِ بِعِشاَءِ الآخِرَةِ، وَتَقَدَّمْتُ إِلى غُلاَمي وَكَانَ دَاهِيَةً أَنْ يَدْفَعَ إِلَى القَوْمِ بِالْمَنِّ وَالرَّطْلِ، وَيَصْرِفَ لَهُمْ، وَأَنَا أُبَخِّرُ بَيْنَ أَيْدِيِهِمْ النَّدَّ وَالعُودَ وَالعَنْبَرَ، فَمَا مَضَتْ سَاعَةٌ إِلاَّ وَهُمْ مِنَ السُّكْرِ أَمْوَاتُ لاَ يَعْقِلُونَ وَوَافَانَا غِلْمَانُهُمْ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ كلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِدَابَّةٍ أَوْ حِمارٍ أَوْ بَغْلَةٍ، فَعَرَّفْتُهُمْ أَنَّهُمْ عِنْدِي الَّلْيلَةَ بَائِتُونَ، فَانْصَرَفُوا، وَوَجَّهْتُ إِلى بِلاَلٍ المُزَيِّنِ فَأَحْضَرْتُهُ، وَقَدَّمْتُ إِلَيْهِ طَعَامًا فَأَكَلَ، وَسَقَيْتُهُ مِنَ الشَّرَابِ القُطْرُ بُّلىً، فَشَرِبَ حَتَّى ثَمِلَ، وَجَعَلْتُ فِي فِيهِ دِينَارَيْنِ أَحْمَرَينِ، وَقُلْتُ: شَأْنَكَ وَالقَوْمَ، فَحَلَقَ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ خَمْسَ عَشْرَةَ لِحْيَةً، فَصَارَ القَوْمُ جُرْدًا مُرْدًا، كَأَهْلِ الجَنَّةِ، وَجَعَلْتُ لِحْيَةَ كُلَِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَصْرُورَةً فِي ثَوْبِهِ، وَمَعْهَا رُقْعَةٌ مَكْتُوبٌ فِيهَا: " مَنْ أَضْمَرَ بِصَدِيقِهِ الغَدْرَ وَتَرْكَ الوَفَاءِ، كَانَ هَذَا مُكَاَفأَتَهُ وَالجَزَاءَ ". وَجَعَلْتُهَا فِي جَيْبِهِ، وَشَدَدْنَاهُمْ فِي الصِّنَانِ، وَوَافَى الحَمَّالُونَ عِشَاءَ الآخِرَةِ، فَحَمَلُوهُمْ بِكَرَّةٍ خَاسِرَةٍ، فَحَصَلُوا فِي مَنَازِلِهِمْ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا رَأَوْا فِي نُفُوسِهِمْ هَمًَّا عَظِيمًا، لا يَخْرُجُ مِنْهُمْ تَاجِرٌ إِلَى دُكَّانِهِ، وَلا كَاتِبٌ إِلَى دِيَوَانِهِ، وَلا يَظْهَرُ لإِخْوانِهِ، فَكَانَ كُلَّ يَوْمٍ يَأْتِي خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ خَوَلِهِمْ، وَمِنْ نِسَاءٍ وَغِلْمَانٍ وَرِجَالٍ يَشْتِمُونَنِي وَيُزَنُّونَنِي، وَيَسْتَحْكِمُونَ اللهَ عَليَّ، وَأَنَا سَاكِتٌ لا أَرْدُّ عَلَيهِمْ جَوَابًا، وَلَمْ أَعْبَأُ بِمَقَالِهِمْ، وَشَاعَ الخَبَرُ بِمَدِينَةِ السَّلامِ بِفُعْلِي مَعَهُمْ، وَلَمْ يَزَلِ الأَمُرُ يَزْدَادُ حَتَّى بَلَغَ الوَزِيرَ القَاسِمَ بْنَ عُبَيْدِ اللُه. وَذَلِكَ أَنَّهُ طَلَبَ كَاتِبًا لَهُ فَافْتَقَدَهُ، فَقِيلَ: إِنَّهُ فِي مَنْزِلِهِ لا يَقْدِرُ عَلى الخُرُوجِ، قَالَ: وَلِمَ؟ قِيلَ: مِنْ أَجْلِ مَا صَنَعَ أَبُو العَنْبَسِ؛ لأَنَّهُ كَانَ امْتُحِنَ بِعِشْرَتِهِ وَمُنَادَمَتِهِ، فَضَحِكَ حَتَّى كَادَ يُبَوِلُ فِي سَرَاوِيلِهِ أَوْ بَالَ، واللهُ أَعْلَمْ. ثُمَّ قَالَ: واللهِ لَقَدْ أَصَابَ وَمَا أَخْطَأَ فِيمَا فَعَلَ، ذَرُوهُ فَإِنَّهُ أَعْلَمِ النَّاسِ بِهِمْ، ثُمَّ وَجَّهَ إِلَيَّ خِلْعَةً سَنِيَّةً، وَقَادَ فَرَسًا بِمَرْكَبٍ، وَحَمَلَ إِلَيَّ خَمْسِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، لاسْتِحْسَانِهِ فِعْلِي، وَمَكَثْتُ فَي مَنْزِلِي شَهْرَيْنِ أُنْفِقُ وَآكلُ وَأَشْرَبُ، ثُمًّ ظَهَرْتُ بَعْدَ الاسْتِتَارِ، فَصَالَحَنِي بَعْضُهُمْ لِعِلْمِهِ بِمَا صَنَعَ الوَِزيرُ، وَحَلَفَ بَعْضُهُمْ بِالطَّلاَقِ الثَّلاَثِ وَبِعِتْقِ غِلْمَانِهِ وَجَوَارِيهِ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُنيِ مِنْ رَأْسِهِ أَبَدًا، فَلا واللهِ العَظِيمِ شَانُهُ، العَلِيِّ بُرْهَانَهُ، مَا اكْتَرَثْتُ بِذَلِكَ، وَلا بَالَيْتُ، وَلا حُكَّ أَصْلُ أُذُنِي، وَلا أَوْجَعَ بَطْنِي، وَلا صَرَّنِي، بَلْ سَرَّنِي، وَإِنَّمَا كانَتْ حَاجَةٌ فِي نَفْسِ يَعْقوبَ قَضَاهَا. ْرُ بُّلىً، فَشَرِبَ حَتَّى ثَمِلَ، وَجَعَلْتُ فِي فِيهِ دِينَارَيْنِ أَحْمَرَينِ، وَقُلْتُ: شَأْنَكَ وَالقَوْمَ، فَحَلَقَ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ خَمْسَ عَشْرَةَ لِحْيَةً، فَصَارَ القَوْمُ جُرْدًا مُرْدًا، كَأَهْلِ الجَنَّةِ، وَجَعَلْتُ لِحْيَةَ كُلَِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَصْرُورَةً فِي ثَوْبِهِ، وَمَعْهَا رُقْعَةٌ مَكْتُوبٌ فِيهَا: " مَنْ أَضْمَرَ بِصَدِيقِهِ الغَدْرَ وَتَرْكَ الوَفَاءِ، كَانَ هَذَا مُكَاَفأَتَهُ وَالجَزَاءَ ". وَجَعَلْتُهَا فِي جَيْبِهِ، وَشَدَدْنَاهُمْ فِي الصِّنَانِ، وَوَافَى الحَمَّالُونَ عِشَاءَ الآخِرَةِ، فَحَمَلُوهُمْ بِكَرَّةٍ خَاسِرَةٍ، فَحَصَلُوا فِي مَنَازِلِهِمْ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا رَأَوْا فِي نُفُوسِهِمْ هَمًَّا عَظِيمًا، لا يَخْرُجُ مِنْهُمْ تَاجِرٌ إِلَى دُكَّانِهِ، وَلا كَاتِبٌ إِلَى دِيَوَانِهِ، وَلا يَظْهَرُ لإِخْوانِهِ، فَكَانَ كُلَّ يَوْمٍ يَأْتِي خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ خَوَلِهِمْ، وَمِنْ نِسَاءٍ وَغِلْمَانٍ وَرِجَالٍ يَشْتِمُونَنِي وَيُزَنُّونَنِي، وَيَسْتَحْكِمُونَ اللهَ عَليَّ، وَأَنَا سَاكِتٌ لا أَرْدُّ عَلَيهِمْ جَوَابًا، وَلَمْ أَعْبَأُ بِمَقَالِهِمْ، وَشَاعَ الخَبَرُ بِمَدِينَةِ السَّلامِ بِفُعْلِي مَعَهُمْ، وَلَمْ يَزَلِ الأَمُرُ يَزْدَادُ حَتَّى بَلَغَ الوَزِيرَ القَاسِمَ بْنَ عُبَيْدِ اللُه.
وَذَلِكَ أَنَّهُ طَلَبَ كَاتِبًا لَهُ فَافْتَقَدَهُ، فَقِيلَ: إِنَّهُ فِي مَنْزِلِهِ لا يَقْدِرُ عَلى الخُرُوجِ، قَالَ: وَلِمَ؟ قِيلَ: مِنْ أَجْلِ مَا صَنَعَ أَبُو العَنْبَسِ؛ لأَنَّهُ كَانَ امْتُحِنَ بِعِشْرَتِهِ وَمُنَادَمَتِهِ، فَضَحِكَ حَتَّى كَادَ يُبَوِلُ فِي سَرَاوِيلِهِ أَوْ بَالَ، واللهُ أَعْلَمْ. ثُمَّ قَالَ: واللهِ لَقَدْ أَصَابَ وَمَا أَخْطَأَ فِيمَا فَعَلَ، ذَرُوهُ فَإِنَّهُ أَعْلَمِ النَّاسِ بِهِمْ، ثُمَّ وَجَّهَ إِلَيَّ خِلْعَةً سَنِيَّةً، وَقَادَ فَرَسًا بِمَرْكَبٍ، وَحَمَلَ إِلَيَّ خَمْسِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، لاسْتِحْسَانِهِ فِعْلِي، وَمَكَثْتُ فَي مَنْزِلِي شَهْرَيْنِ أُنْفِقُ وَآكلُ وَأَشْرَبُ، ثُمًّ ظَهَرْتُ بَعْدَ الاسْتِتَارِ، فَصَالَحَنِي بَعْضُهُمْ لِعِلْمِهِ بِمَا صَنَعَ الوَِزيرُ، وَحَلَفَ بَعْضُهُمْ بِالطَّلاَقِ الثَّلاَثِ وَبِعِتْقِ غِلْمَانِهِ وَجَوَارِيهِ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُنيِ مِنْ رَأْسِهِ أَبَدًا، فَلا واللهِ العَظِيمِ شَانُهُ، العَلِيِّ بُرْهَانَهُ، مَا اكْتَرَثْتُ بِذَلِكَ، وَلا بَالَيْتُ، وَلا حُكَّ أَصْلُ أُذُنِي، وَلا أَوْجَعَ بَطْنِي، وَلا صَرَّنِي، بَلْ سَرَّنِي، وَإِنَّمَا كانَتْ حَاجَةٌ فِي نَفْسِ يَعْقوبَ قَضَاهَا.
وَإِنَّمَا ذَكَرْتُ هَذا وَنَّهْتُ عَلَيْهِ لِيُؤْخَذَ الحَذَرُ مِنْ أَبْنَاءِ الزَّمَنِ، وَتُتْرَكَ الثِّقَةُ بِالإِخْوانِ الأَنْذَالِ السَّفَلِ، وَبِفُلاَنٍ الوَرَّاقِ النَّمَّامِ الزَّرَّافِ الَّذِي يُنْكِرُ حَقَّ الأُدَبَاءِ، وَيَسْتَخِفُّ بِهِمْ، وَيَسْتَعِيرُ كُتُبَهُمْ لا يَرُدُّهَا عَلَيْهِمْ، وَاللهُ المُسْتَعَانُ، وَعَلَيْهِ التُكْلاَنُ.
وَذَلِكَ أَنِّي قَدِمْتُ مِنَ الصَّيْمَرَةِ إِلَى مَدِينَةِ السَّلامِ، وَمَعِي جِرَابُ دَنَانِيرَ وَمِنَ الخُرْثِيِّ وَالآلَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مَا لا أَحْتَاجُ مَعَهُ إِلى أَحَدٍ، فَصَحِبْتُ مِنْ أَهْلِ البُيُوتَاتِ والكُتَّابِ والتُّجَّارِ، وَوُجُوهِ الثَّنَاءِ مِنْ أَهْلِ الثَرْوَةِ وَاليَسَارِ، وَالجِدَةِ والعَقَارِ، جَمَاعَةً اخْتَرْتُهُمْ لِلْصُحْبَةِ، وَادَّخَرْتُهُمْ لِلْنَّكْبَةِ، فَلَمْ نَزَلْ في صَبُوحٍ وَغَبُوقٍ، نَتَغَذَّى بِالجَدَايا الرُّضَعِ وَالطَّبَاهِجَاتِ الفَارِسِيَّةِ، وَالمُدَقَّقَاتِ الإِبْرَاهِيمِيَّةِ، وَالقَلاَيَا المُحْرِقَةِ وَالكَبَابِ الرَّشِيدِي وَالحُملانِ، وَشَرَابُنَا نَبِيذُ العَسَلِ، وَسَمَاعُنَا مِنَ المُحْسِنَاتِ الحُذَّاقِ، المَوْصُوفَاتِ فِي الآفَاقِ، وَنَقْلُنَا اللَّوْزُ المُقَشَّرُ وَالسُّكَّرُ وَالطَّبَرْزَدُ، وَرَيْحَانُنَا الوَرْدُ وَبًخُورُنَا النَّدُّ، وَكُنْتُ عِنْدَهُمْ أَعْقَلَ مِنْ عَبْدِ اللهِ بْن عَبَّاسٍ. وَأَظْرَفَ مِنْ أَبي نُواسٍ، وَأَسْخَى مِنْ حَاتِمٍ، وَأَشْجَعَ مِنْ
عَمْرو، وَأَبْلَغَ مِنْ سَحْبَانِ وَائِلٍ وَأَدْهَى مِنْ قَصِيرٍ، وَأَشْعَرَ مِنْ جَرِيرٍ، وَأَعْذَبَ مِنْ مَاِء الفًرَاتِ، وَأَطْيَبَ مِنَ العَافِيِةِ، لبِذَلْيِ وَمُرُوءَتِي، وَإِتْلافِ ذَخِيرَتِي، فَلَمَّا خَفَّ المَتَاعُ، وَانْحَطَّ الشِّرَاعُ وَفَرَغَ الجِرَابُ، تَبَادَرَ القَوْمُ البَابَ، لَمَّا أَحَسُّوا بِالقِصَّةِ، وَصَارَتْ في قُلُوبِهِم غُصَّةً، وَدَعَوْنِي بَرْصَةً، وَاْنَبَعُثوا لِلْفِرَارِ كَرَمْيَةِ الشَّرَارِ، وأَخَذَتْهُمُ الضُّجْرَةُ، فَانْسَلُّوا قَطْرَةً قَطْرَةً، وَتَفَرَّقُوا يَمْنَةً وَيَسْرَةً، وَبَقِيتُ عَلى الآجُرَّةِ، قَدْ أَوْرَثُونِي الحَسْرَةَ، وَاشْتَمَلَتْ مِنْهُمْ عَلى العَبْرَةُ لا أُسَاوِي بَعْرَةً، وَحِيدًا فَرِيدًا كَالُبومِ، المَوسُومِ بَالشُّومِ، أَقَعُ وَأَقُومُ، كَأَنَّ الَّذِي كُنْتُ فِيهِ لَمْ يَكُنْ، وَنَدِمْتُ حِينَ لَمْ تَنْفَعْنِي النَّدَامَةُ، فَبُدِّلْتُ بِالجَمَالِ وَحْشَةً، وَصَارَتْ بِي طُرْشَةٌ، أَقْبَحُ مِنْ رَهْطَةَ المُنَادِى، كَأَنِّي رَاهِبٌ عِبَادِيٌّ، وَقَدْ ذَهَبَ المَالُ وَبَقِيَ الطَّنْزُ، وَحَصَلَ بِيَدِي ذَنَبُ العَنْزِ، وَحَصَلْتُ في بَيْتِي وَحْدِي مُتَفَتِّتَةً كَبِدِي، لِتَعْسِ جَدِّي، قَدْ قَرَّحَتْ دُمُوعِي خَدِّي، أْعمُرُ مَنْزِلًا دَرَسَتْ طُلُولُهُ، وَعَفَتْ مَعَالِمَهُ سُيُولُهُ، فَأَضْحَى وَأَمْسَى بِرَبْعِهِ الوُحُوش، تَجُولُ وَتَنُوشُ، وَقَدْ ذَهَبَ جَاهِي، وَنَفِدَتْ صِحاحِي، وَقَلَّ مَرَاحِي، وَسَلَحْتُ فِي رَاحِي، وَرَفَضَنِي النُّدَمَاءِ، وَالإِخَوَانُ القُدَمَاءُ، لا يُرْفَعُ لِي رَأْسٌ، وَلا أُعَدُّ مِنَ النَّاسِ، أَوْتَحُ مِنَ بَزِيع الهَرَّاسِ وَرَزِينٍ المَّراسِ، أَتَرَدَّدُ عَلى الشَّطِّ، كَأَنِّي رَاعِي البَطِّ، أَمْشِي وَأَنَا حَافي، وَأَتْبَعُ الفَيَافِي، عَيْنِي سَخِينَةٌ، وَنَفْسِي رَهِينَةٌ، كَأَنِّي مَجْنُونٌ قَدْ أَفْلَتَ مِنْ دَيْرٍ، أَوْ عَيْرٌ يَدٌورٌ فَي الحَيْرِ، أَشَدُّ حُزْنًا مِنَ الخَنْسَاءِ عَلى صَخْرٍ. وَمِنْ هِنْدٍ عَلى عَمْرو وَقَدْ تَاهَ عَقْلِي، وَتَلاَشَتْ صِحَّتِي، وَفَرَغَتْ صُرَّتي، وَفَرَّ غُلامِي، وَكَثُرَتْ أَحْلامِي، وَجِزْتُ في الوَسْوِاسِ المِقْدَارَ، وَصِرْتُ بِمَنْزِلَةِ العُمّارِ، وَشَيْطانِ الدَّارِ، أَظْهَر بِالَّليْلِ وَأَخْفَى بِالنَّهَارِ أَشأَمُ مِنْ حَفَّارٍ وَأَثْقَلُ مِنْ كِراء الدْارِ وَأْرَعَنُ مِنْ طَيْطَىءِ القَصَّارِ وَأَحْمَقُ مِنْ دَاوُدَ العَصَّارِ وَقَدْ حَالَفَتْنِي القِلَّةُ وَشَمَلَتْنِي الذِّلْةُ، وَخَرَجْتُ مِنَ المِلَّةِ، وَأَبْغَضْتُ فِي اللهِ، وَكُنْتُ أَبَا العَنْبَسِ، فَصِرْتُ أَبَا عَمَلَّسِ.
قَدْ ضَلِلْتُ المَحَجَّةَ، وَصَارَتْ عَلَيَّ الحُجَّةُ، لا أَجِدُ لِي نَاصِرًا، وَالإِفْلاسُ عِنْدِي أَرَاهُ حَاضِرًا، فَلَمَّا رَأَيْتُ الأَمْرَ قَدْ صَعُبَ، وَالزَّمَانَ قَدْ كَلِبَ، التَمَسْتُ الدِّرْهَمَ فَإِذَا هُوَ مَعَ النَّسْرَيْنِ، وَعِنْدَ مُنْقَطِعِ البَحْرَيْنِ، وَأَبْعَدَ مِنْ الفَرْقَدَيْنِ.
فَخَرَجْتُ أَسِيحُ كَأَنِّيَ المَسِيحُ، فَجُلْتُ خُرَاسَانَ، وَالخَرابَ مِنْهَا وَالعُمْرَانَ، إِلَى كَرْمَانَ وَسِجِسْتَانَ، وَجيلاَنَ إِلَى طُبْرِسْتَانَ وَإِلَى عُمَانَ إِلَى السِّنْدِ، وَالهِنْدِ، وَالنَّوبَةِ، وَالقُبْطِ، وَاليَمَنِ، وَالحِجَازِ، وَمَكَّةَ، وَالطَّاِئِف، أَجُولُ البَرَارِيَّ وَالْقِفَارِ، وَأَصْطَلِي بِالَّناِر، وَآوِي مَعَ الحِمَارِ، حَتَّى اسْوَدَّتْ وَجْنَتَايَ، وَتَقَلَّصَتْ خُصْيَتَايَ، فَجَمَعْتُ مِنَ النَّوَادِرِ وَالأَخْبَارِ وَالأَسْمَارِ، وَالفَوَائِدِ وَالآثَارِ، وَأَشْعَارِ الْمُتَطَرِّفِينَ، وَسُخْفِ المُلْهِينَ، وَأَسْمَارِ المُتَيَّمِينَ، وَأَحْكَامِ المُتَفَلْسِفِينَ، وَحِيَلِ المُشَعْوِذِينَ، وَنَوَامِيسِ المُتَمَخْرِقِينَ، وَنَوَادِرِ المُنَادِمِينَ، وَرَزْقِ المُنَجِّمِينَ، وَلُطْفِ المُتَطَبِّبِينَ، وَكِيِاَدِ
المُخَنَّثِينَ، وَدَخْمَسَةِ الجَرَابِذَةِ، وَشَيْطَنَةِ الأَبَالِسَةِ، وَمَا قَصَّرَ عَنْهُ فُتْيَا الشَّعْبِيِّ، وَحِفْظُ الضَّبِيِّ. وَعِلْمُ الكَلْبِيِّ. فَاْسَتْرَفْدْتُ وَاجْتَدَيْتُ، وَتَوَسَّلْتُ وَتَكَدَّيْتُ، وَمَدَحْتُ وَهَاجَيْتُ، حَتَّى كَسَبْتُ ثَرْوَةً مِنَ المَالِ، وَاتَّخَذْتُ مِنْ الصَّفَائحِ الهِنْدِيَّةِ، وَالقْضُبِ اليَمَانِيَّةِ، وَالدُّرُوعِ السَّابِرِيَّةِ.
وَالدَّرَقِ التُّبَّتيَّةِ، وَالرِّمَاحِ الخَطِّيَّةِ، وَالحِرَابِ البَرْبَرِيَّةِ، وَالخَيْلِ العِتَاقِ الجُرْدِيَّةِ، وَالبِغَالِ الأَرْمَنِيَّةِ، وَالحُمْرُ المَرِيسِيَّةِ، وَالدَّيَابِيجِ الرُّومِيَّةِ، وَالْخُزُوزِ السُّوسِيَّةِ، وَأَنْواعِ الطُّرَفِ وَالُّلطُفِ، وَالهَدَايَا وَالتُّحَفِ، مَعَ حُسْنِ الحَالِ، وَكَثْرةِ المَالِ، فَلَمَّا قَدِمْتُ بَغْدَادَ وَوَجَدَ القَوْمُ خَبَري، وَمَا رُزقْتُهُ فِي سَفَرِي، سُّرُّوا بِمَقْدَمِي، وَصَارُوا بِأَجْمَعِهِمْ إِلَيَّ، يَشْكُونَ مَا عِنْدَهُمْ مِنَ الوَحْشَةِ لِفَقْدِي، وَمَا نَالَهُمْ لِبُعْدِي، وَشَكَوْا شِدَّةَ الشَّوْقِ، وَرُزْءَ التَّوْقِ وَجَعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَعْتَذِرُ مِمَّا فَعَلَ، وَيُظْهِرُ النَّدَمَ عَلى مَا صَنَعَ، فَأَوْهَمْتُهُمْ أَنِّي قَدْ صَفَحْتُ عَنْهُمْ، وَلَمْ أْظْهِرْ لَهُمْ أَثَرَ المَوْجِدَةِ عَلَيهِمْ بِمَا تَقَدَّمَ، فَطَابَتْ نُفُوسُهُمْ، وَسَكَنَتْ جَوَارحُهُمْ، وَانْصَرَفُوا عَلى ذَلِكَ، وَعَادُوا إِليَّ فِي اليَوْمِ الثَّانِي، فَحَبَسْتُهُمْ عِنْدِي، وَوَجَّهْتُ وَكِيلي إِلَى السُّوقِ فَلَمْ يَدَعْ شَيْئًَا تَقَدَّمْتُ بِشِرَائِهِ إِلاَّ أَتَى بِهِ، وَكَانَتْ لَنَا طَبَّاخَةٌ حَاذِقَةٌ؛ فَاتْخَذْتُ عِشْرِينَ لَوْنًَا مِنْ قَلاَيَا مُحْرِقَاتٍ، وَأَلْوَانًا مِنْ طَبَاهِجَاتٍ، وَنَوادِرَ مُعَدَّاتٍ، وَأَكَلْنَا وَانْتَقَلْنَا إِلَى مَجْلِسِ الشَّرَابِ، فَأُحْضِرَتْ لَهُمْ زَهْرَاءٌ خَنْدَرِيسِيَّةٌ، وَمُغَنِّيَاتٌ حِسَانٌ مُحْسِنَاتٌ، فَأَخَذُوا فِي شَأْنِهِمْ وَشَرِبْنَا، فَمَضَى لَنَا أَحْسَنُ يَوْمٍ يَكُونُ، وَقَدْ كُنْتُ اسْتَعْدَدْتُ لَهُمْ بِعَدَدِهِمْ خَمْسَةَ عَشَرَ صَنًّا مِنْ صِنَانِ البَاذِنْجَانِ، كُلُّ صَنٍّ بِأَرْبَعَةِ آذَانٍ، واسْتَأْجَرَ غُلاَمِي لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَمَّالًا، كلُّ حَمَّالٍ بِدِرْهَمينِ، وَعَرَّفَ الحَمالِينَ مَنَازِلَ القَوْمِ، وَتَقَدَّمَ إِلَيْهِمْ بِالمُوَافَاةِ بِعِشاَءِ الآخِرَةِ، وَتَقَدَّمْتُ إِلى غُلاَمي وَكَانَ دَاهِيَةً أَنْ يَدْفَعَ إِلَى القَوْمِ بِالْمَنِّ وَالرَّطْلِ، وَيَصْرِفَ لَهُمْ، وَأَنَا أُبَخِّرُ بَيْنَ أَيْدِيِهِمْ النَّدَّ وَالعُودَ وَالعَنْبَرَ، فَمَا مَضَتْ سَاعَةٌ إِلاَّ وَهُمْ مِنَ السُّكْرِ أَمْوَاتُ لاَ يَعْقِلُونَ وَوَافَانَا غِلْمَانُهُمْ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ كلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِدَابَّةٍ أَوْ حِمارٍ أَوْ بَغْلَةٍ، فَعَرَّفْتُهُمْ أَنَّهُمْ عِنْدِي الَّلْيلَةَ بَائِتُونَ، فَانْصَرَفُوا، وَوَجَّهْتُ إِلى بِلاَلٍ المُزَيِّنِ فَأَحْضَرْتُهُ، وَقَدَّمْتُ إِلَيْهِ طَعَامًا فَأَكَلَ، وَسَقَيْتُهُ مِنَ الشَّرَابِ القُطْرُ بُّلىً، فَشَرِبَ حَتَّى ثَمِلَ، وَجَعَلْتُ فِي فِيهِ دِينَارَيْنِ أَحْمَرَينِ، وَقُلْتُ: شَأْنَكَ وَالقَوْمَ، فَحَلَقَ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ خَمْسَ عَشْرَةَ لِحْيَةً، فَصَارَ القَوْمُ جُرْدًا مُرْدًا، كَأَهْلِ الجَنَّةِ، وَجَعَلْتُ لِحْيَةَ كُلَِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَصْرُورَةً فِي ثَوْبِهِ، وَمَعْهَا رُقْعَةٌ مَكْتُوبٌ فِيهَا: " مَنْ أَضْمَرَ بِصَدِيقِهِ الغَدْرَ وَتَرْكَ الوَفَاءِ، كَانَ هَذَا مُكَاَفأَتَهُ وَالجَزَاءَ ". وَجَعَلْتُهَا فِي جَيْبِهِ، وَشَدَدْنَاهُمْ فِي الصِّنَانِ، وَوَافَى الحَمَّالُونَ عِشَاءَ الآخِرَةِ، فَحَمَلُوهُمْ بِكَرَّةٍ خَاسِرَةٍ، فَحَصَلُوا فِي مَنَازِلِهِمْ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا رَأَوْا فِي نُفُوسِهِمْ هَمًَّا عَظِيمًا، لا يَخْرُجُ مِنْهُمْ تَاجِرٌ إِلَى دُكَّانِهِ، وَلا كَاتِبٌ إِلَى دِيَوَانِهِ، وَلا يَظْهَرُ لإِخْوانِهِ، فَكَانَ كُلَّ يَوْمٍ يَأْتِي خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ خَوَلِهِمْ، وَمِنْ نِسَاءٍ وَغِلْمَانٍ وَرِجَالٍ يَشْتِمُونَنِي وَيُزَنُّونَنِي، وَيَسْتَحْكِمُونَ اللهَ عَليَّ، وَأَنَا سَاكِتٌ لا أَرْدُّ عَلَيهِمْ جَوَابًا، وَلَمْ أَعْبَأُ بِمَقَالِهِمْ، وَشَاعَ الخَبَرُ بِمَدِينَةِ السَّلامِ بِفُعْلِي مَعَهُمْ، وَلَمْ يَزَلِ الأَمُرُ يَزْدَادُ حَتَّى بَلَغَ الوَزِيرَ القَاسِمَ بْنَ عُبَيْدِ اللُه. وَذَلِكَ أَنَّهُ طَلَبَ كَاتِبًا لَهُ فَافْتَقَدَهُ، فَقِيلَ: إِنَّهُ فِي مَنْزِلِهِ لا يَقْدِرُ عَلى الخُرُوجِ، قَالَ: وَلِمَ؟ قِيلَ: مِنْ أَجْلِ مَا صَنَعَ أَبُو العَنْبَسِ؛ لأَنَّهُ كَانَ امْتُحِنَ بِعِشْرَتِهِ وَمُنَادَمَتِهِ، فَضَحِكَ حَتَّى كَادَ يُبَوِلُ فِي سَرَاوِيلِهِ أَوْ بَالَ، واللهُ أَعْلَمْ. ثُمَّ قَالَ: واللهِ لَقَدْ أَصَابَ وَمَا أَخْطَأَ فِيمَا فَعَلَ، ذَرُوهُ فَإِنَّهُ أَعْلَمِ النَّاسِ بِهِمْ، ثُمَّ وَجَّهَ إِلَيَّ خِلْعَةً سَنِيَّةً، وَقَادَ فَرَسًا بِمَرْكَبٍ، وَحَمَلَ إِلَيَّ خَمْسِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، لاسْتِحْسَانِهِ فِعْلِي، وَمَكَثْتُ فَي مَنْزِلِي شَهْرَيْنِ أُنْفِقُ وَآكلُ وَأَشْرَبُ، ثُمًّ ظَهَرْتُ بَعْدَ الاسْتِتَارِ، فَصَالَحَنِي بَعْضُهُمْ لِعِلْمِهِ بِمَا صَنَعَ الوَِزيرُ، وَحَلَفَ بَعْضُهُمْ بِالطَّلاَقِ الثَّلاَثِ وَبِعِتْقِ غِلْمَانِهِ وَجَوَارِيهِ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُنيِ مِنْ رَأْسِهِ أَبَدًا، فَلا واللهِ العَظِيمِ شَانُهُ، العَلِيِّ بُرْهَانَهُ، مَا اكْتَرَثْتُ بِذَلِكَ، وَلا بَالَيْتُ، وَلا حُكَّ أَصْلُ أُذُنِي، وَلا أَوْجَعَ بَطْنِي، وَلا صَرَّنِي، بَلْ سَرَّنِي، وَإِنَّمَا كانَتْ حَاجَةٌ فِي نَفْسِ يَعْقوبَ قَضَاهَا. ْرُ بُّلىً، فَشَرِبَ حَتَّى ثَمِلَ، وَجَعَلْتُ فِي فِيهِ دِينَارَيْنِ أَحْمَرَينِ، وَقُلْتُ: شَأْنَكَ وَالقَوْمَ، فَحَلَقَ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ خَمْسَ عَشْرَةَ لِحْيَةً، فَصَارَ القَوْمُ جُرْدًا مُرْدًا، كَأَهْلِ الجَنَّةِ، وَجَعَلْتُ لِحْيَةَ كُلَِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَصْرُورَةً فِي ثَوْبِهِ، وَمَعْهَا رُقْعَةٌ مَكْتُوبٌ فِيهَا: " مَنْ أَضْمَرَ بِصَدِيقِهِ الغَدْرَ وَتَرْكَ الوَفَاءِ، كَانَ هَذَا مُكَاَفأَتَهُ وَالجَزَاءَ ". وَجَعَلْتُهَا فِي جَيْبِهِ، وَشَدَدْنَاهُمْ فِي الصِّنَانِ، وَوَافَى الحَمَّالُونَ عِشَاءَ الآخِرَةِ، فَحَمَلُوهُمْ بِكَرَّةٍ خَاسِرَةٍ، فَحَصَلُوا فِي مَنَازِلِهِمْ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا رَأَوْا فِي نُفُوسِهِمْ هَمًَّا عَظِيمًا، لا يَخْرُجُ مِنْهُمْ تَاجِرٌ إِلَى دُكَّانِهِ، وَلا كَاتِبٌ إِلَى دِيَوَانِهِ، وَلا يَظْهَرُ لإِخْوانِهِ، فَكَانَ كُلَّ يَوْمٍ يَأْتِي خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ خَوَلِهِمْ، وَمِنْ نِسَاءٍ وَغِلْمَانٍ وَرِجَالٍ يَشْتِمُونَنِي وَيُزَنُّونَنِي، وَيَسْتَحْكِمُونَ اللهَ عَليَّ، وَأَنَا سَاكِتٌ لا أَرْدُّ عَلَيهِمْ جَوَابًا، وَلَمْ أَعْبَأُ بِمَقَالِهِمْ، وَشَاعَ الخَبَرُ بِمَدِينَةِ السَّلامِ بِفُعْلِي مَعَهُمْ، وَلَمْ يَزَلِ الأَمُرُ يَزْدَادُ حَتَّى بَلَغَ الوَزِيرَ القَاسِمَ بْنَ عُبَيْدِ اللُه.
وَذَلِكَ أَنَّهُ طَلَبَ كَاتِبًا لَهُ فَافْتَقَدَهُ، فَقِيلَ: إِنَّهُ فِي مَنْزِلِهِ لا يَقْدِرُ عَلى الخُرُوجِ، قَالَ: وَلِمَ؟ قِيلَ: مِنْ أَجْلِ مَا صَنَعَ أَبُو العَنْبَسِ؛ لأَنَّهُ كَانَ امْتُحِنَ بِعِشْرَتِهِ وَمُنَادَمَتِهِ، فَضَحِكَ حَتَّى كَادَ يُبَوِلُ فِي سَرَاوِيلِهِ أَوْ بَالَ، واللهُ أَعْلَمْ. ثُمَّ قَالَ: واللهِ لَقَدْ أَصَابَ وَمَا أَخْطَأَ فِيمَا فَعَلَ، ذَرُوهُ فَإِنَّهُ أَعْلَمِ النَّاسِ بِهِمْ، ثُمَّ وَجَّهَ إِلَيَّ خِلْعَةً سَنِيَّةً، وَقَادَ فَرَسًا بِمَرْكَبٍ، وَحَمَلَ إِلَيَّ خَمْسِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، لاسْتِحْسَانِهِ فِعْلِي، وَمَكَثْتُ فَي مَنْزِلِي شَهْرَيْنِ أُنْفِقُ وَآكلُ وَأَشْرَبُ، ثُمًّ ظَهَرْتُ بَعْدَ الاسْتِتَارِ، فَصَالَحَنِي بَعْضُهُمْ لِعِلْمِهِ بِمَا صَنَعَ الوَِزيرُ، وَحَلَفَ بَعْضُهُمْ بِالطَّلاَقِ الثَّلاَثِ وَبِعِتْقِ غِلْمَانِهِ وَجَوَارِيهِ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُنيِ مِنْ رَأْسِهِ أَبَدًا، فَلا واللهِ العَظِيمِ شَانُهُ، العَلِيِّ بُرْهَانَهُ، مَا اكْتَرَثْتُ بِذَلِكَ، وَلا بَالَيْتُ، وَلا حُكَّ أَصْلُ أُذُنِي، وَلا أَوْجَعَ بَطْنِي، وَلا صَرَّنِي، بَلْ سَرَّنِي، وَإِنَّمَا كانَتْ حَاجَةٌ فِي نَفْسِ يَعْقوبَ قَضَاهَا.
وَإِنَّمَا ذَكَرْتُ هَذا وَنَّهْتُ عَلَيْهِ لِيُؤْخَذَ الحَذَرُ مِنْ أَبْنَاءِ الزَّمَنِ، وَتُتْرَكَ الثِّقَةُ بِالإِخْوانِ الأَنْذَالِ السَّفَلِ، وَبِفُلاَنٍ الوَرَّاقِ النَّمَّامِ الزَّرَّافِ الَّذِي يُنْكِرُ حَقَّ الأُدَبَاءِ، وَيَسْتَخِفُّ بِهِمْ، وَيَسْتَعِيرُ كُتُبَهُمْ لا يَرُدُّهَا عَلَيْهِمْ، وَاللهُ المُسْتَعَانُ، وَعَلَيْهِ التُكْلاَنُ.